هذا التقرير هو ثمرة التعاون الثانية بين لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) ومركز الدراسات السورية في جامعة سانت أندروز. وقد بدأ هذا التعاون بموجب رسالة تفاهم بشأن النشاط العلمي المشترك، وُقّعَت في كانون الثاني/يناير 2016. وقد صدر هذا التقرير نتيجة بحثٍ مستفيض أجراه -خبراء وأكاديميون ضمن شبكة برنامج الأجندة الوطنية لمستقبل سوريا، ونتيجة الحوار الذي أُجري برعاية البرنامج مع طيف واسع من أصحاب المصلحة السوريين، بما في ذلك الجهات الفاعلة في المجتمع المدني والقطاع الخاص والمؤسسات الأكاديمية الوطنية والدولية، من أجل التوصل إلى توافق في الآراء يتجاوز استقطابات فترة النزاع. واستند التقرير إلى التحليل الذي أجراه الخبراء المقيمون لمركز الدراسات السورية وشبكة واسعة من العلماء. ويقدم التقرير بيانات عن الأثر الاجتماعي والاقتصادي للنزاع في الجمهورية العربية السورية. ويوثّق تبعات هذا النزاع على الاقتصاد والنسيج الاجتماعي، التي تطرح تحدياتٍ عاتية في المستقبل: فقد خسر البلد بفعل النزاع مكاسبَه الاجتماعية والاقتصادية التي تحققت بمشقّة، سواء كان ذلك في الإنتاج أو في الاستثمار أو التنمية البشرية، حتى ولو أن عيوب النظام السائد قبل النزاع كانت تحمل بذور النزاع.
أسفر النزاع الذي نشب منذ ما يناهز عقداً من الزمن عن تحوّل جذري في جميع نواحي المجتمع السوري. والغرض من هذا التقرير هو تتبّع هذه التحولات على المستوى الاجتماعي والاقتصادي وعلى مستوى الحوكمة. وهو يوفر إطاراً للمضي قدماً، ويقترح المبادئ والأولويات والخطوات العملية اللازمة لتحقيق التعافي الاقتصادي وبناء السلام على نحو شامل ومستدام. وهذه المَهَمَّة هي في غاية الإلحاح. فقد ألحق النزاع بالبلد خسائرَ بشرية واجتماعية مدمّرة. ويُقدَّر عدد الإصابات بمئات الآلاف، وعدد الوفيات بنصف مليون حالة. ويبلغ العدد الإجمالي للنازحين داخلياً غير الطوعيين واللاجئين حوالي 12 مليوناً أو نصف عدد السكان قبل النزاع. والأشخاص الذين تمكّنوا من النجاة يواجهون واقعاً يومياً صعباً على نحو لا يُصدق. وفي عام 2019، كان أكثر من 11.7 مليون شخص في الجمهورية العربية السورية لا يزالون بحاجة إلى شكل واحد على الأقل من المساعدة الإنسانية، من بينهم 5 ملايين شخص بحاجة ماسة إلى المساعدة. وكان نحو 6.5 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي إضافةً إلى 2.5 مليون شخص عرضة لانعدام الأمن الغذائي الحاد. والتدمير الواسع النطاق للبنى الأساسية التعليمية والصحية يلقي بظلاله على آفاق التنمية البشرية الحالية والمقبلة، ولا سيما بالنسبة لجيل كامل من الأطفال في سن الدراسة.
أسفر النزاع عن تحوّل هائل على جميع مستويات الدولة والمجتمع. وبعد عدة سنوات من النزاع الذي انخرطت فيه جهات سورية وغير سورية، أظهرت الجمهورية العربية السورية العديد من أعراض فشل الدولة، بما في ذلك فقدان القدرة على احتكار استخدام العنف، وتراجع السيطرة على الأراضي، وفي العديد من المناطق، انهيار النظام بالكامل.
وقد حوّل تدخل الدول الخارجية المتنافسة النزاع إلى حرب بالوكالة، وفسح الاقتصاد النظامي المجال لاقتصاد الحرب، وما كان قائماً من المجتمع المدني قد تحوّل إلى مجتمع نزاع. وكانت الخسائر في التنمية البشرية في مجالي التعليم والصحة كارثية، ويبدو أنه لا يمكن معالجتها، ما سبّب معاناة على نحو خاص لجيل السوريين الذين بلغوا سن الرشد في وقت النزاع. وعدد القتلى والجرحى سيطارد السوريين في السنوات المقبلة، ولا سيما إن ظلّت هذه الآثار الاجتماعية العميقة من دون معالجة، إلى جانب النزوح الداخلي والخارجي الهائل الذي يُحدِث تغيرات ديموغرافية كبيرة في البلد.
لا يزال النزاع يلحق أضراراً بالهياكل الاجتماعية وبالبنى الأساسية المادية، فيؤدي إلى انقطاع الكهرباء وانعدام المياه الآمنة، ويحول دون الحصول على الرعاية الصحية والتعليم والعمل اللائق. وقد تفكّك النسيج الاجتماعي للبلد، ما قضى على سبل عيش العديد من المدنيين وعلى إمكاناتهم، وأحدث توتراً في العلاقات الاجتماعية، وحفّز التطرف في المجتمع. والمدنيون السوريون هم الأكثر معاناةً من النزاع. فقد كانت نسبة وفيات المدنيين مرتفعة ومتزايدة، والناجون إما نزحوا داخلياً أو طلبوا اللجوء إلى البلدان المجاورة، حيث تستمر المعاناة في مجتمعات اللاجئين.
وحتى بعد أن توقف النزاع وتحقّق استقرارٌ معتدل، لا تزال عملية إعادة إعمار الجمهورية العربية السورية تنطوي على العديد من المشاكل. وفي هذه المرحلة، تتضاءل فرص التغلب على النكسات أو الانتكاسات في التنمية الاجتماعية وبلوغ أهداف التنمية في السنوات المقبلة. وقد يزداد عدد السكان تدريجياً ليصل إلى مستويات ما قبل النزاع بعد عودة اللاجئين والنازحين داخلياً لإعادة بناء مجتمعاتهم، وقد يُحدث ذلك تعافياً سريعاً نسبياً ونمواً في قطاع البناء، إلا أن التداعيات الاجتماعية الطويلة الأمد والأضرار في البنى الأساسية قد تستغرق سنوات لمعالجتها. كما أن فقدان جيل كامل هو اتجاهٌ مقلق سيستمر مع تزايد حرمان الشباب من الحاجات الأساسية ومن فرص التعليم والعمل. ومن المرجح أن تنجم عن ذلك حلقةٌ مفرغة يتقاطع فيها فقر الأفراد وتدهور سبل العيش مع تباطؤ الاقتصاد. ومن شأن الصدمات وأمراض الصحة العقلية المرتبطة بالنزاع أن تؤثر على رفاه السوريين على المدى الطويل، وعلى مساهمتهم في القوى العاملة المنتجة وفي الحياة المجتمعية.
النزاع في الجمهورية العربية السورية هو من بين الأشد تدميراً منذ الحرب العالمية الثانية. فقد خلّف أضراراً مادية واجتماعية هائلة، وبنى أساسية مدمرة، وأزمة لجوء ضخمة، وانكماشاً اقتصادياً حاداً.
يتناول هذا الفصل العواقب الاقتصادية للنزاع، ولا سيما مؤشرات الاقتصاد الكلي في الجمهورية العربية السورية. وفي هذا الإطار، تقاس التكاليف الاقتصادية والمالية المتنوعة باستخدام بيانات من المكتب المركزي للإحصاء في الجمهورية العربية السورية ، ومصرف سورية المركزي ، والإسكوا، وتقديرات وحسابات برنامج الأجندة الوطنية لمستقبل سوريا، وأداة DataMapper التي طوّرها صندوق النقد الدولي، ومركز التجارة الدولية، وجهات أخرى، وذلك لمقارنة البيانات قبل النزاع وبعده، مع تحليل لآثاره الاجتماعية والاقتصادية على مختلف فئات الجهات الفاعلة الاقتصادية بمعناها العريض؛ والمقصود بالجهة الفاعلة الاقتصادية أي شخص أو شركة أو منظمة لها تأثير على الاقتصاد من خلال الإنتاج أو الشراء أو البيع.
نظراً لحجم النزاع وتعقيده الجيوسياسي، يكتسي التعافي وإعادة الإعمار أهميةً لجميع بلدان العالم وليس فقط للسوريين الذين هم في أمس الحاجة إلى ذلك. وكانت الجمهورية العربية السورية مصنفة، قبل نشوب النزاع، كبلد متوسط الدخل، لكن المكاسب التي تحققت في التنمية تراجعت. ففي حين حقّق البلد المرتبة 112 عالمياً في دليل التنمية البشرية لعام 2012، تراجع إلى المرتبة 154 في عام 2019 . وتدهورت جميع المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية تدهوراً حاداً. ولم يتأثر جميع السوريين بالطريقة نفسها، لكن جميع الناس والأسر تقريباً تكبدوا نتائج النزاع السلبية على حياتهم.
وفي أيلول/سبتمبر 2019، أنشئت اللجنة الدستورية المؤلفة من 150 عضواً، بموجب شروط اتفقت عليها الحكومة وهيئة المفاوضات السورية. وشكّل إنشاء هذه اللجنة، بتيسير من الأمم المتحدة في جنيف، خطوةً هامة نحو التوصل إلى حل سياسي. وتعود أهمية اللجنة إلى أنها كرّست اعترافاً متبادلاً بين الحكومة والمعارضة بكونهما الطرفين المحاورين في العملية السياسية.